فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

النوع الخامس: قوله تعالى: {وأنّهُ كان رِجالٌ مِن الْإِنْسِ يعُوذُون بِرِجالٍ مِن الْجِنِّ فزادُوهُمْ رهقا (6)}
فيه قولان:
الأول: وهو قول جمهور المفسرين أن الرجل في الجاهلية إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال: أعوذ بسيد هذا الوادي أو بعزيز هذا المكان من شر سفهاء قومه، فيبيت في جوار منهم حتى يصبح، وقال آخرون: كان أهل الجاهلية إذا قحطوا بعثوا رائدهم، فإذا وجد مكانا فيه كلأ وماء رجع إلى أهله فيناديهم، فإذا انتهوا إلى تلك الأرض نادوا نعوذ برب هذا الوادي من أن يصيبنا آفة يعنون الجن، فإن لم يفزعهم أحد نزلوا، وربما تفزعهم الجن فيهربون.
القول الثاني: المراد أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس أيضا، لكن من شر الجن، مثل أن يقول الرجل: أعوذ برسول الله من شر جن هذا الوادي، وأصحاب هذا التأويل إنما ذهبوا إليه، لأن الرجل اسم الإنس لا اسم الجن، وهذا ضعيف، فإنه لم يقم دليل على أن الذكر من الجن لا يسمى رجلا، أما قوله: {فزادوهُمْ رهقا} قال المفسرون: معناه زادوهم إثما وجرأة وطغيانا وخطيئة وغيا وشرا، كل هذا من ألفاظهم، قال الواحدي: الرهق غشيان الشيء، ومنه قوله تعالى: {ولا يرْهقُ وُجُوههُمْ قترٌ} [يونس: 26] وقوله: {ترْهقُها قترةٌ} [عبس: 41] ورجل مرهق أي يغشاه السائلون.
ويقال رهقتنا الشمس إذا قربت، والمعنى أن رجال الإنس إنما استعاذوا بالجن خوفا من أن يغشاهم الجن، ثم إنهم زادوا في ذلك الغشيان، فإنهم لما تعوذوا بهم، ولم يتعوذوا بالله استذلوهم واجترؤا عليهم فزادوهم ظلما، وهذا معنى قول عطاء خبطوهم وخنقوهم، وعلى هذا القول زادوا من فعل الجن وفي الآية قول آخر وهو أن زادوا من فعل الإنس وذلك لأن الإنس لما استعاذوا بالجن فالجن يزدادون بسبب ذلك التعوذ طغيانا فيقولون: سدنا الجن والإنس، والقول الأول هو اللائق بمساق الآية والموافق لنظمها.
النوع السادس: قوله تعالى: {وأنّهُمْ ظنُّوا كما ظننْتُمْ أنْ لنْ يبْعث اللّهُ أحدا (7)}
اعلم أن هذه الآية والتي قبلها يحتمل أن يكونا من كلام الجن، ويحتمل أن يكونا من جملة الوحي فإن كانا من كلام الجن وهو الذي قاله بعضهم مع بعض، كان التقدير وأن الإنس ظنوا كما ظننتم أيها الجن، وإن كانا من الوحي كان التقدير: وأن الجن ظنوا كما ظننتم يا كفار قريش وعلى التقديرين فالآية دلت على أن الجن كما أنهم كان فيهم مشرك ويهودي ونصراني ففيهم من ينكر البعث، ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يبعث أحدا للرسالة على ما هو مذهب البراهمة، واعلم أن حمله على كلام الجن أولى لأن ما قبله وما بعده كلام الجن فإلقاء كلام أجنبي عن كلام الجن في البين غير لائق.
النوع السابع: قوله تعالى: {وأنّا لمسْنا السّماء فوجدْناها مُلِئتْ حرسا شدِيدا وشُهُبا (8)}
اللمس: المس فاستعير للطلب لأن الماس طالب متعرف يقال: لمسه والتمسه، ومثله الجس يقال: جسوه بأعينهم وتجسسوه، والمعنى طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها، والحرس اسم مفرد في معنى الحراس كالخدم في معنى الخدام ولذلك وصف بشديد ولو ذهب إلى معناه لقيل شدادا.
النوع الثامن: قوله تعالى: {وأنّا كُنّا نقْعُدُ مِنْها مقاعِد لِلسّمْعِ فمنْ يسْتمِعِ الْآن يجِدْ لهُ شِهابا رصدا (9)}
أي كنا نستمع فالآن متى حاولنا الاستماع رمينا بالشهب، وفي قوله: {شِهابا رّصدا} وجوه أحدها: قال مقاتل: يعني رميا من الشهب ورصدا من الملائكة، وعلى هذا يجب أن يكون التقدير شهابا ورصدا لأن الرصد غير الشهاب وهو جمع راصد وثانيها: قال الفراء: أي شهابا قد أرصد له ليرجم به، وعلى هذا الرصد نعت للشهاب، وهو فعل بمعنى مفعول وثالثها: يجوز أن يكون رصدا أي راصدا، وذلك لأن الشهاب لما كان معدا له، فكأن الشهاب راصد له ومترصد له واعلم أنا قد استقصينا في هذه المسألة في تفسير قوله تعالى: {ولقدْ زيّنّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوما للشياطين} [الملك: 5] فإن قيل: هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث، ويدل عليه أمور أحدها: أن جميع الفلاسفة المتقدمين تكلموا في أسباب انقضاض هذه الشهب، وذلك يدل على أنها كانت موجودة قبل المبعث وثانيها: قوله تعالى: {ولقدْ زيّنّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوما للشياطين} ذكر في خلق الكواكب فائدتين، التزيين ورجم الشياطين وثالثها: أن وصف هذا الانقضاض جاء في شعر أهل الجاهلية، قال أوس بن حجر:
فانقض كالدريّ يتبعه ** نقع يثور تخاله طنبا

وقال عوف بن الخرع:
يرد علينا العير من دون إلفه ** أو الثور كالدرى يتبعه الدم

وروى الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار فقال: ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟ فقالوا كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم» الحديث إلى آخره ذكرناه في تفسير قوله تعالى: {ولقدْ زيّنّا السماء الدنيا بمصابيح} قالوا: فثبت بهذه الوجوه أن هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث، فما معنى تخصيصها بمحمد عليه الصلاة والسلام؟ والجواب: مبني على مقامين:
المقام الأول: أن هذه الشهب ما كانت موجودة قبل المبعث وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، وأبي بن كعب، روي عن ابن عباس قال: «كان الجن يصعدون إلى السماء فيستمعون الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، أما الكلمة فإنها تكون حقة، وأما الزيادات فتكون باطلة فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، ولم تكن النجوم يرى بها قبل ذلك، فقال لهم إبليس: ما هذا إلا لأمر حدث في الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي» الحديث إلى آخره، وقال أبي بن كعب: لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى بعث رسول الله فرمي بها، فرأت قريش أمرا ما رأوه قبل ذلك فجعلوا يسيبون أنعامهم ويعتقون رقابهم، يظنون أنه الفناء، فبلغ ذلك بعض أكابرهم، فقال: لم فعلتم ما أرى؟ قالوا: رمي بالنجوم فرأيناها تتهافت من السماء، فقال: اصبروا فإن تكن نجوما معروفة فهو وقت فناء الناس، وإن كانت نجوما لا تعرف فهو أمر قد حدث فنظروا، فإذا هي لا تعرف، فأخبروه فقال: في الأمر مهلة، وهذا عند ظهور نبي فما مكثوا إلا يسيرا حتى قدم أبو سفيان على أمواله وأخبر أولئك الأقوام بأنه ظهر محمد بن عبد الله ويدعي أنه نبي مرسل، وهؤلاء زعموا أن كتب الأوائل قد توالت عليها التحريفات فلعل المتأخرين ألحقوا هذه المسألة بها طعنا منهم في هذه المعجزة، وكذا الأشعار المنسوبة إلى أهل الجاهلية لعلها مختلفة عليهم ومنحولة.
المقام الثاني: وهو الأقرب إلى الصواب أن هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث إلا أنها زيدت بعد المبعث وجعلت أكمل وأقوى، وهذا هو الذي يدل عليه لفظ القرآن لأنه قال: {فوجدناها مُلِئتْ} [الجن: 8] وهذا يدل على أن الحادث هو الملء والكثرة وكذلك قوله: {نقْعُدُ مِنْها مقاعد} أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب والآن ملئت المقاعد كلها، فعلى هذا الذي حمل الجن على الضرب في البلاد وطلب السبب، إنما هو كثرة الرجم ومنع الاستراق بالكلية.
النوع التاسع: قوله تعالى: {وأنّا لا ندْرِي أشرٌّ أُرِيد بِمنْ فِي الْأرْضِ أمْ أراد بِهِمْ ربُّهُمْ رشدا (10)}
وفيه قولان: أحدهما: أنا لا ندري أن المقصود من المنع من الاستراق هو أشر أريد بأهل الأرض أم صلاح وخير والثاني: لا ندري أن المقصود من إرسال محمد الذي عنده منع من الاستراق هو أن يكذبوه فيهلكوا كما هلك من كذب من الأمم، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا.
النوع العاشر: قوله تعالى: {وأنّا مِنّا الصّالِحُون ومِنّا دُون ذلِك كُنّا طرائِق قِددا (11)}
أي منا الصالحون المتقون أي ومنا قوم دون ذلك فحذف الموصوف كقوله: {وما مِنّا إِلاّ لهُ مقامٌ مّعْلُومٌ} [الصافات: 164] ثم المراد بالذين هم دون الصالحين من؟ فيه قولان: الأول: أنهم المقتصدون الذين يكونون في الصلاح غير كاملين والثاني: أن المراد من لا يكون كاملا في الصلاح، فيدخل فيه المقتصدون والكافرون، والقدة من قدد، كالقطعة من قطع.
ووصفت الطرائق بالقدد لدلالتها على معنى التقطع والتفرق، وفي تفسير الآية وجوه أحدها: المراد كنا ذوي طرائق قددا أي ذوي مذاهب مختلفة.
قال السدي: الجن أمثالكم، فيهم مرجئة وقدرية وروافض وخوارج وثانيها: كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة وثالثها: كانت طرائقنا طرائق قددا على حذف المضاف الذي هو الطرائق، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه.
النوع الحادي عشر: قوله تعالى: {وأنّا ظننّا أنْ لنْ نُعْجِز اللّه فِي الْأرْضِ ولنْ نُعْجِزهُ هربا (12)}
الظن بمعنى اليقين، و{فِى الأرض} و{هربا} فيه وجهان الأول: أنهما حالان، أي لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء والثاني: لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمرا، ولن نعجزه هربا إن طلبنا.
النوع الثاني عشر: قوله تعالى: {وأنّا لمّا سمِعْنا الْهُدى آمنّا بِهِ فمنْ يُؤْمِنْ بِربِّهِ فلا يخافُ بخْسا ولا رهقا (13)}
{لمّا سمِعْنا الهدى} أي القرآن، قال تعالى: {هُدى لّلْمُتّقِين} [البقرة: 2] {آمنا بِهِ} أي آمنا بالقرآن {فلا يخافُ} فهو لا يخاف أي فهو غير خائف، وعلى هذا يكون الكلام في تقدير جملة من المبتدأ والخبر، أدخل الفاء عليها لتصير جزاء للشرط الذي تقدمها، ولولا ذاك لقيل: لا يخف، فإن قيل: أي فائدة في رفع الفعل، وتقدير مبتدأ قبله حتى يقع خبرا له ووجوب إدخال الفاء، وكان ذلك كله مستغنى عنه بأن يقال: لا يخف قلنا: الفائدة فيه أنه إذا فعل ذلك، فكأنه قيل: فهو لا يخاف، فكان دالا على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة، وأنه هو المختص لذلك دون غيره، لأن قوله: فهو لا يخاف معناه أن غيره يكون خائفا، وقرأ الأعمش: {فلا يخف}، وقوله تعالى: {بخْسا ولا رهقا} البخس النقص، والرهق الظلم، ثم فيه وجهان الأول: لا يخاف جزاء بخس ولا رهق، لأنه لم يبخس أحدا حقا، ولا (رهق) ظلم أحدا، فلا يخاف جزاءهما الثاني: لا يخاف أن يبخس، بل يقطع بأنه يجزي الجزاء الأوفى، ولا يخاف أن ترهقه ذلة من قوله: {ترْهقُهُمْ ذِلّةٌ} [القلم: 43]. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وأنّا ظننّآ} أي حسبنا {أن لّن تقول الإنس والجن على الله كذِبا}، فلذلك صدقناهم في أن لله صاحبة وولدا، حتى سمعنا القرآن وتبيّنا به الحقّ.
وقرأ يعقوب والجحدريّ وابن أبي إسحق {أنْ لنْ تقول}.
وقيل: انقطع الإخبار عن الجنّ هاهنا فقال الله تعالى: {وأنّهُ كان رِجالٌ مِّن الإنس} فمن فتح وجعله من قول الجنّ ردّها إلى قوله: {أنّهُ استمع}، ومن كسر جعلها مبتدأ من قول الله تعالى.
والمراد به ما كانوا يفعلونه من قول الرجل إذا نزل بوادٍ: أعوذ بسيّد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه؛ فيبيت في جواره حتى يصبح؛ قاله الحسن وابن زيد وغيرهما.
قال مقاتل: كان أوّل من تعوذ بالجنّ قوم من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم.
وقال كرْدم بن أبي السائب: خرجت مع أبي إلى المدينة أوّل ما ذُكر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء الذئب فحمل حملا من الغنم، فقال الراعي: يا عامر الوادي، أنا جارك.
فنادى منادٍ يا سِرْحان أرسله، فأتى الحمل يشْتد.
وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة: {وأنّهُ كان رِجالٌ مِّن الإنس يعُوذُون بِرِجالٍ مِّن الجن فزادوهُمْ رهقا} أي زاد الجنُّ الإنس {رهقا} أي خطيئة وإثما؛ قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة.
والرهق: الإثم في كلام العرب وغِشيان المحارم؛ ورجلٌ رهِقٌ إذا كان كذلك؛ ومنه قوله تعالى: {وترْهقُهُمْ ذِلّةٌ} [يونس: 27] وقال الأعشى:
لا شيء ينفعني مِن دونِ رؤيتِها ** هل يشتفِي وامِقٌ ما لم يُصِب رهقا

يعني إثما.
وأضيفت الزيادة إلى الجنّ إذ كانوا سببا لها.
وقال مجاهد أيضا: {فزادُوهُم} أي إن الإنس زادوا الجنّ طغيانا بهذا التعوّذ، حتى قالت الجنّ: سُدنا الإنس والجنّ.
وقال قتادة أيضا وأبو العالية والربيع وابن زيد: ازداد الإنس بهذا فرقا وخوفا من الجنّ.
وقال سعيد بن جُبير: كفرا.
ولا خفاء أن الاستعاذة بالجنّ دون الاستعاذة بالله كفر وشرك.
وقيل: لا يطلق لفظ الرجال على الجنّ؛ فالمعنى: وأنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجنّ برجال من الإنس، وكان الرجل من الإنس يقول مثلا: أعوذ بحذيفة بن بدر من جنّ هذا الوادي.
قال القشيريّ: وفي هذا تحكُّم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرجال على الجنّ.
قوله تعالى: {وأنّهُمْ ظنُّواْ كما ظننتُمْ أن لّن يبْعث الله أحدا} هذا من قول الله تعالى للإنس؛ أي وأن الجنّ ظنوا أن لن يبعث الله الخلق كما ظننتم.
الكلبيّ: المعنى: ظنت الجنّ كما ظنت الإنس أن لن يبعث الله رسولا إلى خلقه يقيم به الحجة عليهم.
وكل هذا توكيد للحجة على قريش؛ أي إذا آمن هؤلاء الجنّ بمحمد، فأنتم أحقّ بذلك.
قوله تعالى: {وأنّا لمسْنا السماء}
هذا من قول الجنّ؛ أي طلبنا خبرها كما جرت عادتنا {فوجدْناها} قد {مُلِئتْ حرسا شدِيدا} أي حفظة، يعني الملائكة.
والحرس: جمع حارس {وشُهُبا} جمع شهاب، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عن استراق السمع.
وقد مضى القول فيه في سورة (الحجر) و(الصافات).
و(وجد) يجوز أن يقدّر متعدّيا إلى مفعولين، فالأوّل الهاء والألف، و{مُلِئتْ} في موضع المفعول الثاني.
ويجوز أن يتعدّى إلى مفعول واحد ويكون {مُلِئتْ} في موضع الحال على إضمار قد.
و{حرسا} نصب على المفعول الثاني ب{مُلِئتْ}.
و{شدِيدا} من نعت الحرس، أي ملئت ملائكة شدادا.
ووحد الشّديد على لفظ الحرس؛ وهو كما يقال: السّلف الصالح بمعنى الصالحين، وجمع السّلف أسلاف وجمع الحرس أحراس؛ قال:
تجاوزتُ أحراسا وأهوال معْشرٍ

ويجوز أن يكون {حرسا} مصدرا على معنى حُرِست حراسة شديدة.
قوله تعالى: {وأنّا كُنّا نقْعُدُ مِنْها مقاعِد لِلسّمْعِ فمن يسْتمِعِ الآن يجِدْ لهُ شِهابا رّصدا}.
{مِنْها} أي من السماء، و{مقاعِد}: مواضع يُقْعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء؛ يعني أن مردة الجنّ كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء حتى يلقوها إلى الكهِنة على ما تقدّم بيانه، فحرسها الله تعالى حين بعث رسوله بالشُّهب المحرقة، فقالت الجنّ حينئذ: {فمن يسْتمِعِ الآن يجِدْ لهُ شِهابا رّصدا} يعني بالشهاب: الكوكب المحرِق؛ وقد تقدّم بيان ذلك.
ويقال: لم يكن انقضاض الكواكب إلا بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وهو آية من آياته.
واختلف السّلف هل كانت الشياطين تُقذف قبل المبعث، أو كان ذلك أمرا حدث لمبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فقال الكلبي وقال قوم: لم تكن تحرس السماء في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه: خمسِمائة عام، وإنما كان من أجل بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها، وحُرست بالملائكة والشهب.
قلت: ورواه عطية العوفي عن ابن عباس؛ ذكره البيهقي.
وقال عبد الله بن عمر: لما كان اليوم الذي نُبِّئ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُنعت الشياطين ورُموا بالشُّهب.
وقال عبد الملك بن سابور: لم تكن السماء تُحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فلما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم حُرست السماء، ورُميت الشياطين بالشُّهب، ومُنعت عن الدنوّ من السماء.
وقال نافع بن جُبير: كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا تُرمى، فلما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رُميت بالشُّهب.
ونحوه عن أبيّ بن كعب قال: لم يُرم بنجم منذ رُفع عيسى حتى نُبِّئ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُمِي بها.
وقيل كان ذلك قبل المبعث، وإنما زادت بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنذارا بحاله؛ وهو معنى قوله تعالى: {مُلِئتْ} أي زيد في حرسها؛ وقال أوْس بن حجر وهو جاهليّ:
فانقض كالدُّرِّي يتْبعُه ** نقْعٌ يثورُ تخالُه طُنُبا

وهذا قول الأكثرين.
وقد أنكر الجاحظ هذا البيت وقال: كل شعر رُوِي فيه فهو مصنوع، وأن الرمي لم يكن قبل المبعث.
والقول بالرمي أصح؛ لقوله تعالى، {فوجدْناها مُلِئتْ حرسا شدِيدا وشُهُبا}.
وهذا إخبار عن الجنّ، أنه زِيد في حرس السماء حتى امتلأت منها ومنهم؛ ولما رُوي عن ابن عباس قال: بينما النبيّ صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه إذا رُمِي بنجم، فقال: «ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟» قالوا: كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنها لا تُرْمى لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربّنا سبحانه وتعالى إذا قضى أمرا في السماء سبّح حملة العرش ثم سبّح أهل كل سماء، حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ويستخبرُ أهلُ السماء حملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ويخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه، فتتخطّف الجنُّ فيُرْمون فما جاءوا به فهو حقّ ولكنهم يزيدون فيه» وهذا يدل على أن الرجم كان قبل المبعث.
وروى الزهريّ نحوه عن عليّ بن الحسين عن عليّ بن أبي طالب عن ابن عباس.
وفي آخره قيل للزهريّ: أكان يُرمى في الجاهلية؟ قال: نعم.
قلت: أفرأيت قوله سبحانه: {وأنّا كُنّا نقْعُدُ مِنْها مقاعِد لِلسّمْعِ فمن يسْتمِعِ الآن يجِدْ لهُ شِهابا رّصدا} قال: غُلظت وشُدِّد أمرُها حين بُعث النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ونحوه قال القتبيّ: كان ولكن اشتدت الحراسة بعد المبعث؛ وكانوا من قبلُ يسترقون ويُرمون في بعض الأحوال، فلما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم مُنعت من ذلك أصلا.
وقد تقدم بيان هذا في سورة (والصافات) عند قوله: {ويُقْذفُون مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُورا ولهُمْ عذابٌ واصِبٌ} [الصافات: 8-9] قال الحافظ: فلو قال قائل: كيف تتعرض الجنّ لإحراق نفسها بسبب استماع خبر، بعد أن صار ذلك معلوما لهم؟ فالجواب: أن الله تعالى ينسيهم ذلك حتى تعظم المحنة، كما ينسى إبليس في كل وقت أنه لا يسلم، وأن الله تعالى قال له: {وإِنّ عليْك اللعنة إلى يوْمِ الدين} [الحجر: 35] ولولا هذا لما تحقق التكليف.
والرّصد: قيل من الملائكة؛ أي ورصدا من الملائكة.
والرّصدُ: الحافظ للشيء والجمع أرصاد، وفي غير هذا الموضع يجوز أن يكون جمعا كالحرس، والواحد: راصد.
وقيل: الرصد هو الشهاب، أي شهابا قد أرصد له، ليرجم به؛ فهو فعلٌ بمعنى مفعول كالخبط والنّفض.
قوله تعالى: {وأنّا لا ندري أشرٌّ أُرِيد بِمن فِي الأرض} أي هذا الحرس الذي حرست بهم السماء {أمْ أراد بِهِمْ ربُّهُمْ رشدا} أي خيرا.
قال ابن زيد: قال إبليس لا ندري هل أراد الله بهذا المنع أن يُنزل على أهل الأرض عذابا أو يُرسل إليهم رسولا.
وقيل: هو من قول الجنّ فيما بينهم قبل أن يسمعوا قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم.
أي لا ندري أشرٌّ أُرِيد بمن في الأرض بإرسال محمد إليهم، فإنهم يكذبونه ويهلِكون بتكذيبه كما هلك من كذّب من الأمم، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا؛ فالشرّ والرشد على هذا الكفر والإيمان، وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولما سمعوا قراءته علموا أنهم مُنعوا من السماء حراسة للوحي.
وقيل: لا؛ بل هذا قول قالوه لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين؛ أي لما آمنوا أشفقوا ألاّ يؤمن كثير من أهل الأرض فقالوا: إنا لا ندري أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أمْ يؤمنون؟
قوله تعالى: {وأنّا مِنّا الصالحون ومِنّا دُون ذلِك}
هذا من قول الجنّ، أي قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإنا كنا قبل استماع القرآن منّا الصالحون ومنّا الكافرون.
وقيل: {ومِنّا دُون ذلِك} أي ومن دون الصالحين في الصلاح، وهو أشبه من حمله على الإيمان والشرك.
{كُنّا طرآئِق قِددا} أي فِرقا شتّى؛ قاله السُّديّ.
الضحاك: أديانا مختلفة.
قتادة: أهواء متباينة؛ ومنه قول الشاعر:
القابِضُ الباسِطُ الْهادِي بِطاعتِهِ ** في فِتْنةِ الناسِ إِذْ أهْواؤُهُمْ قِددُ

والمعنى: أي لم يكن كل الجنّ كفارا بل كانوا مختلفين: منهم كفّار، ومنهم مؤمنون صلحاء، ومنهم مؤمنون غير صلحاء.
وقال المسيّب: كنا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس.
وقال السّدّي في قوله تعالى: {طرآئِق قِددا} قال: في الجنّ مثلكم قدرية، ومُرْجئة، وخوارج، ورافضة، وشيعة، وسُنّية.
وقال قوم: أي وإِنا بعد استماع القرآن مختلفون: منّا المؤمنون ومنّا الكافرون.
أي ومنّا الصالحون، ومنّا مؤمنون لم يتناهوا في الصلاح.
والأوّل أحسن؛ لأنه كان في الجنّ من آمن بموسى وعيسى، وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا: {إِنّا سمِعْنا كِتابا أُنزِل مِن بعْدِ موسى مُصدِّقا لِّما بيْن يديْهِ} [الأحقاف: 30] وهذا يدلّ على إيمان قوم منهم بالتوراة، وكان هذا مبالغة منهم في دعاء من دعوهم إلى الإيمان.
وأيضا لا فائدة في قولهم: نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر.
والطرائق: جمع الطريقة وهي مذهب الرجل، أي كنا فرقا مختلفة.
ويقال: القوم طرائق أي على مذاهب شتّى.
والقِدد: نحوٌ من الطرائق وهو توكيد لها، واحدها: قِدّة.
يقال: لكل طريق قِدّة، وأصلها من قدّ السيور، وهو قطعها؛ قال لبيد يرثي أخاه أرْبد:
لم تبْلُغِ العينُ كلّ نهْمتِها ** ليلة تُمْسِي الجِيادُ كالقِددِ

وقال آخر:
ولقدْ قُلْتُ وزيدٌ حاسِرٌ ** يوم ولّتْ خيلُ عمْرو قِددا

والقِدّ بالكسر: سير يُقدّ من جلد غير مدبوغ؛ ويقال: ماله قِدٌّ ولا قِحْف؛ فالقِدُّ: إناء من جلد، والقِحف: من خشب.
قوله تعالى: {وأنّا ظننّآ أن لّن نُّعْجِز الله فِي الأرض} الظنّ هنا بمعنى العلم واليقين، وهو خلاف الظنّ في قوله تعالى: {وأنّا ظننّآ أن لّن تقول} [الجن: 5]، {وأنّهُمْ ظنُّواْ} [الجن: 7] أي علمنا بالاستدلال والتفكر في آيات الله: أنّا في قبضته وسلطانه، لن نفوته بهرب ولا غيره.
و{هربا} مصدر في موضع الحال أي هاربين.
قوله تعالى: {وأنّا لمّا سمِعْنا الهدى} يعني القرآن {آمنّا بِهِ} وبالله، وصدّقنا محمدا صلى الله عليه وسلم على رسالته.
وكان صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الإنس والجنّ.
قال الحسن: بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجنّ، ولم يبعث الله تعالى قطُّ رسولا من الجنّ، ولا من أهل البادية، ولا من النساء؛ وذلك قوله تعالى: {ومآ أرْسلْنا مِن قبْلِك إِلاّ رِجالا نوحي إِليْهِمْ مِّنْ أهْلِ القرى} [يوسف: 109] وقد تقدم هذا المعنى.
وفي الصحيح: «وبُعثت إلى الأحمر والأسود» أي الإنس والجنّ.
{فمن يُؤْمِن بِربِّهِ فلا يخافُ بخْسا ولا رهقا} قال ابن عباس: لا يخاف أن يُنْقص من حسناته ولا أن يزاد في سيئاته؛ لأن البخس النقصان، والرّهق: العدوان وغشيان المحارم؛ قال الأعشى:
لا شيْء ينْفعُنِي مِن دُونِ رُؤْيتِها ** هل يشْتفِي وامِقٌ ما لمْ يُصِبْ رهقا

الوامق: المحبّ؛ وقد ومِقه يمِقه بالكسر أي أحبّه، فهو وامق.
وهذا قول حكاه الله تعالى عن الجِنّ؛ لقوّة إيمانهم وصحة إسلامهم.
وقراءة العامة «فلا يخافُ» رفعا على تقدير فإنه لا يخاف.
وقرأ الأعمش ويحيى وإبراهيم «فلا يخفْ» جزما على جواب الشرط وإلغاء الفاء. اهـ.